قطوفٌ دانية

قطوفٌ دانية

"تُمنح جائزة البنك الإسلامي للتنمية لمساهمة المرأة في التنمية سنويًا لتعزيز وتقوية دور المرأة باعتبارها مساهما أساسيا في المجتمع، بالإضافة إلى كونها عاملا فعالا في التغيير. تمنح الجائزة مبالغ نقدية للأفراد والمنظمات الملتزمة بتحسين رفاه ووضع المرأة في البلدان الأعضاء حول العالم. وتُحَدِّدُ الفائزاتِ بالجائزة لجنةٌ مؤلفة من 12 امرأة بارزة، معترف لهن بالريادة في مجالاتهن، يقدمْن المشورة للبنك في كيفية تعزيز مشاركة المرأة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية."

وُلدتُ في قلقيلية، وهي مدينةٌ فلسطينيةٌ تقع في الضفة الغربية. وبعد ولادتي بفترة وجيزة، أخبر الأطباء والدتي أنني مصابة بإعاقةٍ في ساقي اليُمنى، قد تصعّب عليّ المشي. ولكن الله حَباني، تعويضاً عن تلك الإعاقة، بنِعمٍ كثيرةٍ أخرى. ترعرعت بين أخواتي وتابعت دراستي في المدرسة الابتدائية في قريتنا، لكن المدرسة الثانوية كانت بعيدة عن بيتنا كلّ البعد، وبسبب إعاقتي لم يكن سهلاً عليّ الذهاب إليها.

كان والدي ينقلني في بعض الأحيان إلى المدرسة، ولكنّ ذلك كان لم يكن سهلاً عليه، فقد تعِب. ومع ذلك عزّ عليه إخباري أنه لن يستطيع الاستمرار في أخذي إلى المدرسة. بدأ يلمّح إليّ وإلى أخواتي إلى أنه لا يوجد فرق بين المدرسة والجمعيات التي تُدّرب الفتيات على الخياطة والتطريز وعلى الأعمال اليدوية الأخرى. وظل يسألنا: "من يرغب في الانضمام إلى الجمعية المجاورة لنا؟" لم تَرُدَّ أيٌّ منّا عليه، ولم أكنْ أُدرك أن السؤال موجهٌ إليّ دون سواي.

وفي صباح أحد الأيام، استيقظت وأنا أتطلّع إلى ارتداء ملابس مدرستي كالمعتاد. وبدلاً من ذلك، مُنِحتُ زياً جديداً سُعدتُ به، لكنني فوجئت بأبي يقبلني قبلاتٍ حارة وهو يبكي. وكذلك فعلتْ أخواتي، اللائي علمنَ بالفعل أنني لن أذهب إلى المدرسة معهن بعد الآن. نظرتُ إلى والدتي في دهشةٍ متسائلة عما كان يحدث.

أخذتْ والدتي حقيبة المدرسة من يدي واحتضنتني قائلة: "ستلتحقين بالجمعية المجاورة لنا بدلاً من المدرسة، وسوف تتعلمين الخياطة والتطريز. ستمتهنين مهنةً رائعة أفضل من أخواتك." لقد أدركتُ أخيرًا أن دموع والدي كانت تشي باستسلامه لأمرٍ لم يكن يحبّذ الاستسلام له.

نظر إليّ والدي بحزن بعد عودته من العمل، وأجلسني بجانبه ثم قال: "ستذهبين إلى المدرسة غدًا يا ابنتي". لكنني كنت أعلم بالفعل أنه لن يستطيعَ مساعدتي، ولذلك أقنعته أنني راغبة في الالتحاق بالجمعية، فأخذني في اليوم التالي إلى جمعية حبلة للخياطة لتعلّم الخياطة والتطريز.

لقد عانيتُ كثيرًا خلال فترة التدريب، حيث كان عليّ أن أتكئ على قدمٍ واحدة. وبعد أن أتقنتُ حِرفة الخياطة والتطريز، أردت مساعدة نفسي ومجتمعي، ولكن كيف؟ طلبت من العديد من الأشخاص مساعدتي على شراء آلات الخياطة لإطلاق مشروعٍ لتشغيل الأرامل، لكنني فشلتُ في العثور على من يساعدني في فتح مشغلٍ للخياطة.

أدركتُ أنّ عليّ أن أشتري آلة خياطة بنفسي، لكنني لم أستطع في بداية الأمر شراء آلة متطورة. لذلك كان عليّ أن أكتفي بما في يدي إلى أن أدخر ما يكفي من المال لشرائها. علّمتُ إحدى جاراتي، وهي أم لسبعة أطفال، الخياطةَ والتطريز. وبعد أن أتقنتْ تلك المهارات، عرضتُ عليها وظيفةً بأجرة شهرية. كانت سعيدة غاية السعادة بالعثور على شخص يعرض عليها العمل في وقت عزّ فيه على الرجال العثور على وظيفة.

ثم اشتريت آلتين أخريين للخياطة وعلّمت مزيداً من النساء والفتيات ممن يعانين من الصمم وثقل السمع. وبعد تعلّمهنّ الخياطة والتطريز، بدأتُ في دفع أجرة لهن على عملهن. اشتريتُ المزيد من آلات الخياطة، وأخيرا افتتحتُ مشغل الهنا للخياطة. وعملنا معًا حتى صرت أملك 50 آلة خياطة. أدركت تمام الإدراك أن هذا النجاح لم يكن ليتحقق لولا إرادة الله حتى يمكّنني من مساعدة هؤلاء النساء وأطفالهن.

وخلال كل هذه المدة، كم رأينا جنودًا إسرائيليين يهدمون الأراضي الزراعية ويهدمون المباني ويشردون عائلات كثيرة من بيوتها. وذات يوم، اعتدوا على مشغل الهنا للخياطة، وصادروا جميع الآلات ودمروا كل شيء داخل المشغل. حاولتُ أن أمنعهم، لكنهم دفعوني جانباً حتى سقطت على الأرض. حزنتْ كل النساء على الدمار الذي لحق بالمشروع لأنه كان ملاذنا الوحيد من الفقر. فجأة، أصبحنا عاطلات.

بدأنا نتساءل: "هل يمكننا إحياء المشروع أو هلْ مِن حل بديل؟" عرضتْ النساء أفكارهنّ عن كيفية حل المشكلة. وهبنني مبالغ زهيدة من المال، واقترح بعضهن طلب المساعدة من المحسنين؛ لكننا لم نجد للأسف شخصاً يساعدنا، فاستبدّ بنا اليأس.

وذات يوم، زارتني مجموعة من النساء في بيتي لإخباري أن البنك الإسلامي للتنمية يقدم جوائز مالية لأصحاب المشاريع الجيدة التي يخدمون بها مجتمعاتهم. طلبن مني التقدم بالطلب. وبعد ذلك ببضعة أشهر، سمعتُ طرقات عالية على باب بيتي، ففتحته ووجدت زميلاتي يضحكن بحماس، متشوقات إلى زفِّ خبرٍ إلي.

دعوتهن جميعًا للدخول وسألتهن عما حدث. شرعن كلهن في الحديث في الحال، وكأن كل واحدة منهن تريد أن تسوق إليّ خبر الفوز. لم أفهم شيئا لأنهن كن يتحدثن كلهن في نفس الوقت. وفجأة رمقتْ عيني امرأةً بكماءَ، عيناها تدمعان، لكن وجهها يشرق بابتسامةٍ، فأدركت أن دموعها تلك كانت دموع فرحٍ. كانت أفضل من زفّ إليّ البشرى، وعلمتُ على الفور أنني إحدى الفائزات بجوائز البنك الإسلامي للتنمية. 

تلقيت من البنك الإسلامي للتنمية دعوة للحضور إلى الكويت لتسلم جائزتي، مثلي مثل سيدات أخريات فائزات من عدة دول إسلامية حول العالم. دخلتُ القاعة حيث ستمنحُ الجوائز وجلستُ في ذهول. ظهر مسؤول في البنك وطلب من الحاضرين الهدوء. ساد الصمت، وشعرت كأنني وحدي في القاعة.

بعد الانتهاء من تلاوة آيات من القرآن الكريم، دعاني داعٍ إلى المنصة لتسلم جائزتي. لقد كانت لحظة سعيدة. أحسست برهبة شديدة عندما سمعت تصفيقاً حارّاً من كل الحاضرين. تمالكت نفسي لأصل بصعوبة إلى المنصة التي وقفتُ فيها أمام جميع الوزراء الممثلين للبلدان الأعضاء في البنك لتلقي جائزتي من رئيس البنك الإسلامي للتنمية. شعرتُ كأنّ جميع زميلاتي كنّ معي في الكويت، على الرغم من أنهن كُنّ في بيوتهن يُشاهدن الحدث على شاشات التلفزيون.

عدتُ إلى فلسطين بروحٍ متفائلةٍ واستقبلتني كل النساء العاملات معي. وبعد فترة، اشتريتُ بأموال الجائزة التي قدّمها البنك آلات خياطة جديدة بدَل الآلات المدمّرة. لقد عَمّ فضْلُ البنك الإسلامي للتنمية مما يُقدمه للبلدان الإسلامية العديدَ من الشعوب في مختلف أنحاء العالم. والآن، بلغ عددُ الموظفات العاملات في مشغل الهنا للخياطة 200 امرأة، تقودُهُنّ جميعاً امرأةٌ مُعاقةٌ تُدعى فاطمة الجدع.